مدخل :
تحظى اللهجات بعناية كبيرة لدى الدارسين اللغويين في شتى اللغات, لما يتمثل فيها من تاريخ لتلك اللغة, وتدرج فيها, كما أن لها دلالات اجتماعية وثقافية ووطنية, ثم إنها تفسر كثيراً من التساؤلات حول التغيرات اللغوية أو التوافق في بعض المعاني, كما فسرت بذلك ظاهرة (الترادف).
وقد عني الدارسون العرب بلهجات العربية في مهد العربية (الجزيرة), فجاءت كثير من الدراسات القديمة والحديثة لهذه الظاهرة على محورين:
1- إشارات ولمحات مبثوثة في كتب اللغة والنحو والتفسير, وهذه كثيرة جداً, كما نجد في كتاب سيبويه والمعاجم العربية القديمة كالعين, وجمهرة اللغة, وغيرهما.
2- مؤلفات خاصة مستقلة: (في اللهجات العربية) إبراهيم أنيس, و(اللهجات العربية) نشأة وتطوراً، عبدالفتاح حامد هلال.
ويأتي هذا المقال ليضيء لنا جوانب كانت محل دراسة في اللهجات العربية في الجزيرة وصلتها بالفصحى, ويتحدث عن تعريف اللهجة والفصحى, وسمات اللهجات ومظاهر اختلافها, ونشأة اللهجات, وما دار من خلاف حول الفصحى ولهجاتها, واللهجات القريبة من الفصحى والبعيدة عنها, ثم عرض لبعض عيوب اللهجات كما صدها السابقون.
تعرف اللهجة والفصحى:
- اللهجة, يقال: لَهَج بالأمر لَهَجاً: أولع به واعتاده, واللَّهْجة واللَّهَجة: طرف اللسان.. وجرس الكلام, ويقال: فلان فصيح اللهجة, وهي لغته التي جبل عليها, فاعتادها ونشا عليها, واللهجة: اللسان.
واللام والهاء والجيم: أصل يدل على المثابرة على الشيء وملازمته, وسمى اللسان لهجة, لأن كلاًّ يلهج بلغته وكلامه[1].
وهي في الاصطلاح العلمي الحديث - كما يقول إبراهيم أنيس- : (مجموعة من الصفات اللغوية تنتمي على بيئة خاصة, ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة) [2].
الفصحى: الفصاحة: البيان, تقول: رجل فصيح, وكلام فصيح, أي: بليغ, وأفصح: تكلم بالفصاحة, وكذلك الصبي إذا فهمت ما يقول في أول ما يتكلم, وتفصح الرجل في كلامه, وتفاصح: تكلف الفصاحة.
والفصيح في اللغة: المنطلق اللسان في القول, الذي يعرف جيد الكلام من رديئه, والفصيح: اللسان، الطليق، والكلام العربي[3].
والعربية الفصحى: عبارة عن لهجة أو مجموعة لهجات لها صفات خاصة, كالإعراب والبيان, وتسمى اللهجة – أحيانا - لغة, ونجده كثيراً في كتب النحو والمعاجم, مثل: لغة هذيل, ولغة طيء.
سمات اللهجات ومظاهر اختلافها:
هناك سمات عامة تحملها بعض اللهجات, تميزها عن اللهجات الأخرى, وأهمها:
- الأصوات, وكيفية صدورها, كتحقيق الهمز وتخفيفه, فقبيلة (تميم) تحقق الهمز بعكس أهل الحجاز, وكذلك الإمالة, والإبدال, (فيروى ...أن قبيلة تميم كانوا يقولون في فزت: فزد, كما كانوا ينطقون بالهمز عيناً)[4], ولعل الإبدال أبرز الظواهر الصوتية الفارقة بين اللهجات, الذي تشتهر به قبيلة, ويروى عنها, كالاستنطاء, والعنعنة, والفحفحة, والكشكشة...
- تتميز بعض اللهجات بطريقة صياغة الأبنية الصرفية, من ذلك اسم المفعول من الثلاثي معتل الوسط بالياء, فالقياس حذف الياء أو واو مفعول, على خلاف, فيقال في (باع وخاط): مبيع ومخيط, إلا قبيلة تميم, فإنها تصححه, فيقولون: مبيوع ومخيوط, ومنه قول العباس بن مرداس:
قد كان قومك يحسبونك سيداً * وإخال أنك سيد iiمعيون[5]
- تنفرد بعض اللهجات بدلالات خاصة, وقد نشأ من تنوع الدلالات وجود المشترك اللفظي والترادف, من ذلك أن أبا هريرة رضي الله عنه لم يفهم معنى (السكين) لما طلبها منه النبي صلى الله عيه وسلم, وقال: ألمدية تريد؟ فقيل له: نعم, فقال: أو تسمى عندكم سكيناً؟ ثم قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ[6].
إلا أن هذا الاختلاف في الدلالة لا يكون كثيراً, فإن اللهجة (إذا اختلفت معاني معظم كلماتها, واتخذت أسساً خاصة في بنية كلماتها, وقواعد خاصة في تركيب جملها, لا تسمى حينئذٍ لهجة, بل لغة مستقلة)[7].
نشأة اللهجات:
كثير من اللغات ترجع إلى أصول واحدة, ولكنها تباينت مع تقادم الزمن, وكلما طال الزمن زادت تباعداً وانقساماً, فاللغات السامية ترجع إلى أصل واحد, وهذا ما يفسر اتفاقها في بعض الخصائص, ثم إنها تفرقت, وأصبحت لغات كثيرة, تحمل كل واحدة منها سمات وخصائص تنفرد بها, وهذا التباعد الزمني يضاف إليه التباعد الجغرافي والهجرات, وكانت الهجرات كثيرة في الجزيرة العربية, لانعدام عوامل الاستقرار.
أضف إلى ذلك سعة الرقعة الجغرافية للجزيرة العربية, وانعزال بعض قبائل العرب عن البعض الآخر, ومجاورة بعضها للغات أخرى, ولما جاء الإسلام, واتسعت رقعة العربية, وكثر المتكلمون بها, واختلط العرب بغيرهم, وكثرت الهجرات والفتوحات, أثر ذلك على خصائص كثير من اللهجات, وأضاف سمات جديدة إليها[8].